.الفصل الحادي والسبعون:
إخواني: ألا ناظر لنفسه قبل الموت، ألا مستدرك زاد رمسه؟ قبل الفوت، ألا مزدجر بواعظ أمسه؟ فقد أسمعه الصوت.
ما ضرَّ عبدٌ نفسه ** قبل خروج نفسههل يومه أو غده ** إلا نظير أمسهوعلَّه يلقى الرّدى ** قبل غروب شمسهكم مدلجٍ مهجرٍ ** يسعى لبعل عرسهوأكيس الناس امرؤٌ ** جدّ ليوم رمسهإخواني: حبال الآمال رثاث، وساحر الهوى نفاث، والأماني على الحقيقة أضغاث، والمال المدخر رزق الوارث، عجبًا لأجسام ذكور وعقول إناث، إلام لرواح في الهوى والتغليس؟ وحتام السعي في صحبة إبليس؟ وكم بهرجة في العمل وكم تدليس؟ أين الأقران هل لهم من حسيس؟ أما تعلم أنهم ندموا على إيثار الخسيس، تالله لقد ودوا طلاق الدنيا قبل المسيس، لقد أسمعك الموت وعيدك، وكأنك به قد ضعضع مشيدك، وأخلى منك دارك، وملأ بك بيدَك، لقد أمرضك الهوى وفي عزمه أن يزيدك، هل لذت لذة الدنيا فصفت هل عافت؟ إلا وعافت وعفت هل تبعت عرضًا؟ وقفت فوقفت هل أرشفت شفة من رضابها؟ فشفت بينا محبها يناجيها بألفاظ المنى، خفت ما بلغ المراد منها إلا من صد عنها والتفت.
عين المنية يفضي غير مطرفة ** وطرف مطلوبها مذ كان وسنانجهلًا تمكن منه حين مولده ** فالمرء صاح ولبُّ المرء سكرانكم نرمي هدف سمعك برشق كلام، كم نلدغ أصل قلبك بحمة ملام، لا تنفع الرياضة إلا في نجيب، لو سقي الحنظل بماء السكر لن يخرج حلوًا، شجر الأثل وإن دام الماء تحته لم يثمر، سحاب الهدى قد طبق بيد الأكوان، وأظن أرض قلبك سبخًا إنما يغلب هذا على ظني لبعد صلاحك وقد يستحيل الخمر خلاًّ، كم تحضر المجلس وتخرج وما علقت بشيء ويحك، هذا البنفسج يطرح في الشيرح فيعبق به طول السنة وكذلك الورد في الأشنان.
ومن البليّة عذلُ من لا يرعوي ** عن غيّه وخطاب من لا يفهمويحك، إلى كم تعدو خلف موكب الهوى وما تربح إلاّ الغبار، دع حبل الرعونة من يد التمسك فإنه لا مرة له، ما قتل أحد بأحد من سيف سيوفي، ومواهب الأعمار مسترجعة بالأنفاس حتى تستوفي، ألست نقضت عهد
{ألست} بعد عقد عقده فكيف حل لك الحل؟
بحرمة ما قد كان بيني وبينكم ** من الوصل إلا ما رجعتم إلى الوصلنحن لك على الوفاء ما زلنا، وأنت ما ثبت يومين.لكثير:
وكنّا ارتقينا في صعودٍ من الهوى ** فلما علوناه ثبت وزلتوكنا عقدنا عقدة الوصل بيننا ** فلما توافينا شددت وحلّتواعجبًا، تنبه الحيوانات بالليل فتصوت وأنت غافل ويحك إذا فتحت عينيك في الدجى فصح بقلبك.
قم بنا يا أخي لما نتمنّى ** واطرد النوم بالعزيمة عناقم فقد صاحت الديوك ونادت ** لا تكون الديوك أطرب مناإخواني: مصيبتنا في التفريط واحدة وأهل الأحزان أهل.
إنّا ليجمعُنا البكاء وكلُّنا ** نبكي على شجنٍ من الأشجانمجلس الذكر مأتم الأحزان، هذا يبكي لذنوبه، وهذا يندب لعيوبه، وهذا على فوات مطلوبه، وهذا لإعراض محبوبه.
يتشاكى الواجدون جوىً ** واحدًا والوجد ألوانُيا نائح الفكر نضد، يا نادب الحزن عدّد، يا لائم النفس شدِّد، يا رامي القلب سدِّد، يا جامع الدَّمع بدِّد، يا مطرب السر ردِّد.للمهيار:
نشدتُك يا بانة الأجرع ** متى رفعَ الحيُّ من لعلعوهل مرَّ قلبي في التابعين ** أم حار ضعفًا فلم يتبعرأيت له بين تلك القلوب ** إذا اشتبهت أنة الموجعأدر يا نديمي كأس الحديث ** فكأسي بعدهُمُ مدمعييا مقيّدًا عن السير بقيود الشواغل أيطمع في لحاق الطير مقصوص القوادم؟ صوت في الأسحار بالسائرين لعل عطفًا ينعطف إليك في عطفة رحمة، فقد ترق الساعة لأهل الفاقة.للمهيار:
ردوا لنا يومًا ولو ساعةً ** على الغضا من عيشنا الزائلِلي ذلة السائلِ ما بينكم ** فلا تفتكم عزة الباذلسل الليل عن الأحباب فعنده الخبر، خلا الفكر بالقلب في بيت التلاوة فجرت أوصاف الحبيب فنهض قلق الشوق يضرب بطون الرواحل لينهر السهر فلا وجه لنوم القوم.للخفاجي:
أترى طيفكم لما سرى ** أخذ النوم وأعطى السهرالا نلوم الليل بل نعذره ** إنما طوله من قصرايا عيونًا بالغضا راقدة ** حرم الله عليكن الكرىلو عدلتن تساهمنا جوى ** مثل ما كنا اشتركنا نظراحبذا فيك حديث باطن ** فطن الدمع به فانتشرامن لم يكن له مثل تقواهم لم يعلم ما الذي أبكاهم. من لم يشاهد جمال يوسف لم يعلم ما الذي ألم قلب يعقوب.
من لم يبت والحب حشو فؤاده ** لم يدر كيف تفتت الأكبادلو دمت على سلوك البادية طابت لك ريح الشيح.
تقر لعيني أن أرى رملة الحمى ** إذا ما بدت يومًا لعيني قلالهاولست وإن أحببت من يسكن الغضا ** بأول راجٍ حاجة لا ينالها
.الفصل الثاني والسبعون:
يا من كانت له معنا معاملة، وطالت بيننا وبينه المواصلة ثم اختار الهجر والفاصلة إن، لم يكن جميل فلتكن مجاملة، تفكر تعرف قدر ما فاتك وابك لذنب حرمك الفوز وأفاتك، اسكب دموع أسفك فرب دم بالأسى سفك واندب أطلال مألفك لعلك تغاث في موقفك.للمهيار:
تظنُّ ليالينا عوَّدا ** على العهد من برقتي ثهمداويا صاحبي أين وجه الصباح ** وأين غدٌ صِف لعيني غداوخلف الضلوع زفيرٌ أبى ** وقد برد الليل أن يبرداخليليّ لي حاجةٌ ما أخفَّ ** لرامة لو حملتْ مُسعِداأريد لأكتم وابن الأراك ** يفضحها كلما غرداأحب وإن أخصب الحاضرون ** ببادية الرمل أن أخلُداأرى كبدي قُسِّمتْ شعبتين ** مع الشوق غور أو أنجداتمناك عيني وقلبي يراك ** بشوقي حاشاك أن تُفقدااللهم نور دنيانا بنور من توفيقك، واقطع أيامنا في الاتصال بك وانظم شتاتنا في سلك طاعتك، فأنت أعلم بتلفيق المقترف، اللهم قوِّ منن أطفال التوبة بلبان الصبر، ارفق بمرضى الهوى في مارستان البلاء، افتح مسام الأفهام لقبول ما ينفع، سلم سيارة الأفكار من قاطع طريق، احرس طلائع المجاهدة من خديعة كمين، احفظ شجعان العزائم من شر هزيمة، وقّع على قصص الإنابة بقلم العفو، لا تسلط جاهل الطبع على عالم القلب، لا تبدل نعيم عيش الروح بجحيم حر النفس، لا تمت حي العلم في حي الجهل أخرجنا إلى نور اليقين من هذا الظلام، لا تجعلنا ممن رأى الصبح فنام، لا تؤاخذنا بقدر ذنوبنا، فإنك قلت:
{ولا تنسوُا الفضل بينكم} واعجبًا لمن عرفك ثم أحب غيرك ولمن سمع مناديك ثم تأخر عنك.
حرام على العيش ما دمت غضبانا ** وما لم يعد عني رضاك كما كانافأحسن فإني قد أسأت ولم تزل ** تعودني عند الإساءة غفراناإلهي، لا تعذب نفسًا قد عذبها الخوف منك، ولا تخرس لسانًا كل ما يروي عنك، ولا تقذ بصرًا طالما يبكي لك، ولا تخيب رجاءًا هو منوط بك، إلهي، ضع في ضعفي قوة من منك، ودع في كفي كفى عن غيرك، ارحم عبرة تترقرق على ما فاتها منك، برد كبدًا تحترق على بعدها عنك.للشريف الرضي:
أشكو إليك مدامعا تَكِفُ ** بعد النوى وجوانحًا تَجِفُما كان أسرع ما نبا زمنٌ ** وتكدرتْ من وُدّنا نُطَفُحبلٌ غدا بأكفنا طَرَفٌ ** منه وفي أيدي النوى طرفُلهفي على ذاك الزمان وهلْ ** يثني زمانًا ماضيًا لَهَفُواأسفي لمنقطع دون الركب متأخر عن لحاق الصحب يعد الساعات في متى ولعل ويخلو يفكر في عسى وهل.لقيس المجنون:
أعد الليالي ليلة بعد ليلة **وقد عشت دهرًا لا أعد الليالياوأخرج من بين البيوت لعلني **أحدث عنك النفس بالليل خاليايمينًا إذا كانت يمينا وإن تكن **شمالًا ينازعني الهوى عن شمالياألا يا حمامي بطن نعمان هجتما ** على الهوى لما تغنيتما لياوأبكيتماني وسط صحبي ولم أكن **أبالي بدمع العين لو كنت خالياذكت نار شوقي في فؤادي فأصبحت **لها وهج مستضرم في فؤادياخليلي ما أرجو من العيش بعدما **أرى حاجتي تشرى ولا تشتري لياوقد يجمع الله الشتيتين بعدما **يظنان كل الظن أن تلاقياأيها المتخلف في أعقاب الواصلين استغث بهم، علّق على قطارهم فلعل جملك يصل.
يا صاح والصاحب لا يدعى به ** إلا إذا لج الغرام واعتدىخذ بيدي من سطوة البين فما ** أظن أن البين أبقى لي يداأين ليالينا القصار بالحمى ** واكبدا على الحمى واكبدايا من قد مضت له ليالي مناجاة ثم طبق الدستور، وقطع المعاملة، اندب زمان الوصل لعل حالًا حال يعود.للمهيار:
يا ليلتي بحاجر ** إن عاد ماضٍ فارجعيبتنا على الأحقاف ** تنهال بكل مضجعقالوا الصباح فانتبه ** فقال لي الطيف اسمعفقمت مخلوطًا أظن ** البازل ابن الربعحيران طرفي دائرٌ ** أطلب ما ليس معيأرضى بأخبار الرياح ** والبروق اللُّمَّعِوأين من برق الحمى ** شائمة بلعلعأفرشني الجمرَ وقال:
إن أردت فاهجعذكر الوصال في زمان الهجر تلف، خصوصًا إذا لم يكن للحبيب خلف. قال ابن مسروق: كنت أمشي مع الجنيد في بعض دروب بغداد، فسمع منشدًا يقول:
منازل كنت تهواها وتألفها ** أيام أنت على الأيام منصورفبكى الجنيد بكاءًا شديدًا وقال ما أطيب منازلة الإلفة والأنس، وأوحش مقامات المخالفة لا أزال أحن إلى أول بدء إرادتي وجدة سعيي.للمهيار:
يا ليلتي بذات الشيح والضال ** ومنبت البان من نعمان عودا ليويا مرابع أطلالي بذي سلم ** لهفي على ما مضى من عصرك الخاليويا مآرب نفسي والذين هم ** بالوصل والهجر أعلالي وأبلاليقد كان قلبي بكم مأوى السرور فمذ ** نا يتم صار مأوى كل بلبالفلو شربت بعمري ساعة سلفت ** من عيشتي معكم ما كان بالغاليمالي أعلل نفسي بالوقوف على ** منازل أقفرت منكم وأطلالمن لي بكتمان ما ألقاه من ألم ** وظاهري معرب عن باطن الحالقالوا تشاغل عنا واصطفى بدلًا ** منا وذلك فعل الخائن الساليوكيف أشغل قلبي عن محبتكم ** بغير ذكركم يا كل أشغالي